[align=center]الحداثة في الفن

لايمكن اعتبار الحداثة قطيعة أولية لا مثيل لها. ذلك أن حرصها الجنوني على ردم التقليد السائد وتحقيق التجديد الجذري جعلها تساير - في نطاق النظام الثقافي وعلى مدى قرن فاصل - النتاج الخاص للمجتمعات الحديثة، التي ترمي إلى أن تؤسس نفسها على ضوء معطيات النمط الديمقراطي.
ومن ثم، فإن الحداثة لا يمكن أن تكون شيئا آخر غير تعبير عن النسق القديم الذي يؤدي إلى بروز المجتمعات الديمقراطية القائمة على سيادة الفرد والشعب، والمتحررة من سيطرة تراتبيات المجتمع الموروثة وكل تقليد سائد.
وبإمكاننا أن نقف على الاستمرار الثقافي لهذا النسق فيما ظهر بوضوح إبان نهاية القرن الثامن عشر من تحولات على مستوى الممارسات السياسية والتشريعية عملت على إنجاز المشروع الثوري الديمقراطي الذي أدى إلى بناء مجتمع منسلخ عن كل مسوغ مقدس، بحيث يبدو هذا المجتمع في النهاية مجرد تعبير خالص عن إرادة الأفراد ومساواتهم في الحقوق.
وهكذا، اضطر المجتمع إلى أن يبتكر نفسه، من جهة إلى أخرى، حسب الباعث الإنساني لا حسب ميراث الماضي الجماعي، إذ ما عاد أي شيء مقدسا، وإنما ينحاز المجتمع إلى امتلاك حق التصرف والتوجه من ذات نفسه دون ضغط خارجي أو تمشيا مع نموذج يتجلى مطلقا.
ومجاراة للدقة، ألا يمكن القول بأن إلغاء ظاهرة استعلاء وتفوق الماضي هو ما ينطوي عليه عمل المجددين في ميدان الفن؟ فكما أن الثورة الديمقراطية تحرر المجتمع من قوى اللامرئي ومن علاقته بالكون التدريجي، فإن الحداثة الفنية تسعى إلى الغاية نفسها حينما تحرر الفن والأدب من عبادة التقليد الموروث، واحترام الأساتذة الأولين وكذا من نظام التقليد.
ففي نطاق سعيها إلى تحرير المجتمع من عبودية القوى المؤسسة الخارجية واللاإنسانية، وتخليص الفن من قواعد السرد المجسد كان نفس المنطق يعمل عمله ليؤسس نظاما مستقلا لا ركيزة له سوى الفرد الحر.
وكما قال أندريه مالرو: «فإن ما يبحث عنه الفن الجديد هو قلب علاقة الشيء باللوحة وجعله تابعا لها بصورة جلية»، وبالتالي، فإن غاية الحداثة هي «التركيب الخالص» (كاندنسكي) والارتقاء إلى عالم من الأشكال والأصوات والمعاني الحرة والسامية التي لا تخضع لقواعد خارجية سواء كانت دينية أو اجتماعية، بصرية أو أسلوبية.
ودون أن تكون في حالة تعارض مع نظام المساواة، فإن الحداثة هي - عبر وسائل أخرى - استمرار للثورة الديمقراطية ولعملها الرامي إلى تحطيم الأشكال التابعة. وبعبارة أخرى، فإنها تسعى إلى تأسيس فن منسلخ عن الماضي ومستقل بذاته، مما يجعلها تبدو أحيانا عبر بعض صفاتها «النخبوية» فنا منفصلا عن الجماهير و«نسقا تجريديا من وجهة نظر ماركسية» كما أكد ذلك أدرنو.
إن الحداثة ذات جوهر ديمقراطي لأنها لا تفصل الفن عن التقليد والاقتداء، كما أنها تطلق - على غرة - حركة نسق مشروعية سائر المواضيع .
لم يعد للفن موضوع متميز، كما أنه لم يعد يُجمِّلُ العالم؛ إذ بإمكان النموذج أن يكون نحيفا لا قيمة له، كما أنه بإمكان الأفراد أن يتزينوا بسترة سوداء قصيرة وطويلة، وأن توازي طبيعة ميتة رسما لتصبح بعد ذلك خطاطة إجمالية للوحة.
وهكذا، صار التوهج السابق للمواضيع لدى الانطباعيين يفسح المجال لألفة مناظر ضواحي المدينة ولبساطة حافات الطرق والمقاهي والأزقة والمحطات. أما التكعيبيون، فإنهم سيدمجون في لوحاتهم الأرقام والحروف وقطعا من الأوراق والزجاج والحديد. وعبر حضور الجاهز - وكما يقول الرسام دوشان فإنه من الأهمية أن يكون الشيء المختار تافها بصفة مطلقة.
ولقيامه بذلك، صار يتحدَّد عبر محاكمة ترمي إلى تحطيم سمو النتاجات لجعلها تطابق بدقة إلغاء التقديس الديمقراطي للهيئة السياسية واختزال العلامات المتأرجحة للسلطة ودنيوية القانون، بحيث توجه نفس العمل إلى «تقزيم» ما هو جليل ورفيع، إلى درجة أن كل المواضيع صارت تعتبر على نفس المستوى، كما أنه صار بإمكان كل العناصر أن تدخل في الإبداعات التشكيلية والأدبية.
وعليه، فإذا كان الفنانون المعاصرون يخدمون مجتمعا ديمقراطيا، فإنهم لا يفعلون ذلك انطلاقا من العمل الصامت الخاص للنظام القديم، بل انطلاقا من مبدأ القطيعة الجذرية والمتطرفة، قطيعة الثوريين السياسيين المعاصرين. لذلك، فإن التماثلات القائمة بين محاكمة ثورية ومحاكمة حداثية هي تماثلات واضحة: إذ أن كل واحدة منها تعني تأسيس قطيعة عنيفة أحادية الاتجاه. وفي هذا الصَّدد، يقول الفنان بول كلي «أريد أن أكون مثل مولود جديد لا أعرف شيئا عن أوروبا إطلاقا..
أريد أن أكون شبه بدائي. وبمعنى آخر، فإن المحاكمتين تؤمنان بنفس الاستثمار المتزايد أو التقديس العلماني للعهد الجديد، وذلك باسم الشعب والمساواة والأمة من جهة، ثم من جهة أخرى، باسم الفن نفسه أو باسم «الإنسان الجديد».
نحن إذن أمام نفس المحاكمات التطرفية ونفس المزايدة الواضحة، سواء على مستوى النظام الإيديولوجي والإرهابي أو على مستوى هوس التوغل في مجالات التجديد الفني. نفس الإرادة الرامية إلى تحدِّي الحدود الوطنية وإضفاء طابع كوني على العالم الجديد (الفن الطبيعي يستعمل أسلوبا عالميا).
نفس التأسيس لجماعات «متقدمة» من المناضلين وفناني الطليعة ولهذا، فإنه ليس بإمكاننا أن نقبل تحليلات «أدورنو» الذي يعتبر الحداثة مجرد نسق تحريري مماثل لمنطق قيمة التبادل الاقتصادية التي تعمل بها الرأسمالية الكبرى، لأن الحداثة ليست نسخا لنظام السلعة، كما أن الثورة الفرنسية لم تكن «ثورة بورجوازية».
وهذا يعني أن النظام الاقتصادي (سواء أدركناه من منظور مصالح الطبقة أو من منظور المنطق التجاري) لا يمكنه أن يجعل المزايدة الحديثة معقولة، ولا أن يفعل نفس الشيء بالنسبة للثورة ضد دين الماضي المتعصب أو التحمس لعظمة المستقبل وبهائه، وإرادة التجديد الجذري.
هذا، ومادامت ميزة الحداثة تقوم على التجديد، فإنها قد أتاحت للفن اتخاذ مسلك آخر يدفع النتاجات الأدبية إلى أن يكون في حالة تناقض مع تناغم الحياة المألوفة من خلال ابتعادها عن تجربتنا المعتادة مع الفضاء واللغة.[/align]

طبعا لا تنسون يا حبايبي انه منقوووووووووووووول